الدكتورة معصومة كريميان (شورانكيز)

الدكتورة معصومة كريميان (شورانكيز)

الدكتورة معصومة كريميان (شورانكيز)

كانوا يلقبونها بـ (شورانكيز) و (شورى) أيضًا. وكان هذا الاسم في حقيقة الأمر مستحقًا لأسطورة المقاومة هذه، لأنها كانت مفعمة بحماسة الثورة والنضال. وكانت أينما تطأ أقدامها تعلِّم المحيطين بها بعض القيَم، من قبيل الحماسة والشغف بالتضحية ونكران الذات والرحمة واللطف والتواضع والاستقلالية والمقاومة والجرأة والشجاعة والأمل والإيمان.

ولم تكن هذه المرأة العظيمة الشأن والطبيبة الثورية من أساطير المقاومة والصمود في سجون خميني من فراغ. إذ لم يقلل تعرُّضها للتعذيب والسَجن على مدى 7 سنوات، بدءًا من الزج بها في سجن إيفين وصولًا إلى التعذيب المستمر في قفص التعذيب، ومن سجن قزلحصار وصولًا إلى عمليات الإعدام رميًا بالرصاص في سجن إيفين؛ من إيمانها بقضية الحرية قيد أنملة فحسب، بل إنه جَعلها أكثر تصميمًا على المضي قدمًا في هذا الطريق، وجَعل إرادتها أكثر رسوخًا.

معصومة كريميان (شورانكيز)، الطبيبة الفدائية

وُلِدت معصومة كريميان (شورانكيز)، في عام 1958. بعد أن أكملت تعليمها في المرحلتين الابتدائية والثانوية، وواصلت دراستها في إحدى الدول الأوروبية، حيث نجحت في الحصول على الدكتوراه في العلاج الطبيعي.

واعتقلها حرَّاس خميني في عام 1981، وتعرَّضت للتعذيب منذ البداية على يد هؤلاء الحرَّاس. ودائمًا ما كان حرَّاس نظام الملالي وسجَّانوه يكنون لها الضغينة، وسرعان ما يتعصبون منها؛ بسبب ما كانت تتمتع به من روح المقاومة والعناد. وكانوا إذا أرادوا معاقبة مجموعة ما، فإن شورانكيز لابد وأن تكون واحدة منهن. وشاركت شورانكيز في كافة الحركات الاحتجاجية والإضراب عن الطعام.

ومن منطلق أنها كانت طبيبة متخصصة في جراحة تقويم العظام؛ بادرت سرًا بعلاج العديد من السجينات اللواتي يعانين من مشاكل جسدية بسبب التعذيب؛ بما توفر لديها من إمكانيات السجن المحدودة.

وكتبت إحدى السجينات المطلق سراحها، في مذكراتها عن الدكتورة معصومه كريميان: ” كنت أعاني في عام 1984 من التهاب في مفاصل الرقبة، وصنعت شورانكيز لي قلادة جيدة باستخدام علبة فايتكس وكمية قليلة من الإسفنج والقماش، و بعد أن خضعت لرعايتها لفترة من الوقت، تقلَّصت الآلام في رقبتي وشعرت بالراحة لفترة طويلة”.

صمود شورانكيز في القفص

كان من أبرز أشكال صمود هذه الأسطورة الشجاعة، هو صمودها في سجن قزلحصار، حيث تعرضت لأقسى أشكال التعذيب اللاإنساني. حيث أنه تم حبسها في أقفاص سجن قزلحصار، اعتبارًا من عام 1983 حتى عام 1984، وهذا في حد ذاته قصة منفصلة.

وفي هذا الصدد، كتبت معصومة جوشقاني، التي سُجنت لسنوات طويلة في الثمانينيات، في كتاب “شورانكيز” الذي كتبته تخليدًا لذكرى صديقتها وزميلتها في العنبر، الدكتورة معصومة كريميان أن:

“شورانكيز أكملت دراستها الطبية المتخصصة في إنجلترا. وأنها كانت فتاة طويلة ذات شعر طويل وكثيف ووجهه جميل. ورأيتها لأول مرة في عام 1981 مع عدد من أنصار مجاهدي خلق، عندما كنّا مجتمعين في منزلنا، ورحَّبت بهم بتقديم الشاي فقط، بيد أنني لم أشارك في اجتماعهم.

ولم أرها مرة أخرى إلى أن رأيتها في العنبر الـ 240 السفلي. وكان وجهها كما هو لطيف وحازم. وكانت هذه المرة ذات شعر قصير وجسد مليء بالإصابات جراء ما تعرضت له من مختلف أشكال التعذيب في السجن. إذ لم ينثني أحد ذراعيها، وكانت تجرُّ إحدى رجليها أثناء السير. والسبب في ذلك هو تعذيبها بالتكتيف بوضع إحدى يديها فوق الكتف وسحب اليد الأخرى من الخلف ووضع سوار معدني على الرسغين وقفله بالمفتاح وتعليقها بالسقف في هذا الوضع، مما تسبَّب في تمزق أوتار يديها وساقيها، فضلًا عن ضربها بالكابل.

وحتى في ظل تعرضها لهذه الظروف، كنّا نراها وهي تساعد مَن تعرَّضوا للتعذيب. إذ كانت شجاعة إلى حد بعيد وحازمة وودودة. وكانت تُلقي التحية بهدوء وتمضي في طريقها. ولم أكن زميلتها في الغرفة في سجن إيفين، وكنت أراها أحيانًا في ممر العنبر فقط، دون أن تعبِّر بوضوح عن معرفتها بي لأنها لم تكن تريدني أن أشعر بالحساسية. ولم يعد لديَّ أي أخبار عنها إلى أن نُقلتُ إلى سجن قزلحصار.

ورأيتها في سجن قزلحصار في اليوم الذي دخلتُ فيه العنبر الـ 8. وقبَّلتني بلطفها الخاص ورحَّبت بي. وكانت تفحص السجينات بانتظام، وتساعد الأمهات المسنات والمريضات أو الفتيات المريضات أثناء الاستحمام، وكانت تغسل ملابسهن أيضًا.

وكانت الفتيات في العنبر يحبونها حبًا جمًا. وكانت تحظى باحترام وحب الجميع. وكانت تؤثر الآخرين على نفسها في كل شيء. وتوليهم الأولوية في الحصول على البطانيات والملابس حتى كمية الطعام القليلة المخصصة لكل فرد. لقد كانت مضحِّية وتقية لدرجة أنني نادرًا ما رأيت أحدًا مثلها.

ونظرًا لأن العنبر الـ 8 كان خاصًا، في ذلك الوقت، بالسجينات اللواتي تمسَّكن بمواقفهن، كنَّ يتحدثن جميعًا في كل حالة عن الآراء السياسية والتحليلات المختلفة. وكان لدى شورانكيز نظرة عميقة في العديد من هذه الحالات وكانت السجينات كثيرًا ما يأخذن منها الدافع للصمود.

لقد كانت محترمة للغاية لدرجة أنه حتى عندما كان يأتي حاج داوود معذّب إلى العنبر ليُحدث ضوضاء بالشخط والنطر والبلطجة بالضرب ويصل أمامها يقول “السيدة الدكتورة لا تزال هنا أيضًا” ويمر أمامها.

واستخدمت خبراتها الطبية في علاج السجينات. وكانت تتحدث إلينا عن سور القرآن بتفسير بسيط وبليغ. وكانت تقوم في بعض الأحيان بأداء الأعمال اليدوية، من قبيل النحت على الحجر أو التطريز، وجميعها تنطوي على مفهوم سياسي.

لقد صنعت لي تطريزًا جميلًا جدًا، كُتب عليه سورة من القرآن تسمى والعصر (وتعني القسم بالزمن).

وأخَذت القماش من قطعة من الملابس، ووفرت خيوط التطريز من منشفة. وكانت أحيانًا تنشد لي في الليل القصائد التي كانت تُنشد في السجن”.

طبيبة تتستر على ما لحق بها من إصابات

كتب سجينة أخرى في مذكراتها عن شورانكيز أن: “شورانكيز لم تكن تقوى على المشي بشكل صحيح؛ بسبب ما تعرَّضت له من أشكال التعذيب الكثيرة، وكانت دائمًا ما تعرُج، ولم تخلع جواربها على الإطلاق؛ نظرًا لأن قدميها مصابتان بجروح شديدة لدرجة أنها لم تكن ترغب في أن يراهما أحد. وبعد خروج معصومة من الأقفاص، اقتادوها إلى الحجر الصحي لعدة أشهر ثم نقلوها إلى العنبر العام.

وذات يوم رأيت ظهرها صدفةً أثناء الاستحمام. وفوجئت حقًا؛ لأنه بعد شهور من خروجها من القفص، لا تزال هناك آثار للضربات المفاجئة والوحشية بالحذاء الخشن لحاج داوود على ظهرها، لدرجة أنني شعرت أنها تعرضت لهذه الضربات للتو”.

وفي وقت لاحق، قالت مريم محمدي بهمن آبادي، التي تم إعدامها أيضًا في عام 1988 وكانت محبوسة في القفص: “كلما كان حاج داوود يأتي إلى القفص، كانت كل عضلاتنا تتيبس كرد فعل. لأنه كان يضرب رؤوسنا وأجسادنا فجأة بالحذاء الخشن. وبطبيعة الحال لم نكن نعرف من الخلف على مَن يعتدي هذا الجلاد بالضرب؛ لأن أعيننا كانت معصوبة وكنَّا جالسين في مواجهة الجدار، والكدمات على ظهر شورانكيز هي أيضًا من آثار الضرب بهذا الحذاء الخشن”.

وفي نهاية المطاف، وبعد 7 سنوات من الصمود في السجن وتحمُّل كل أنواع التعذيب، كانت هذه الطبيبة المخلصة العنيدة واحدة من أول مجموعة من السجينات من القاعة الـ 3 في سجن إيفين اللواتي تم تسليمهن إلى فرقة الإعدام رمياً بالرصاص.

كما تم إعدام مهري كريميان، الشقيقة الصغرى لشورانكيز، في مجزرة عام 1988. وأعلن نظام الملالي أنه تم إعدام الدكتورة معصومة كريميان في 30 نوفمبر 1988، من أجل الحفاظ على سرية أبعاد المجزرة، في حين أنها كانت ضمن مجموعة الإعدامات الأولى.

وتم إعدام شورانكيز رميًا بالرصاص، بيد أن قضيتها وشغفها بالنضال ورغبتها في نيل الحرية ستبقى حية وخالدة في قلوب نساء وشباب إيران بتذكُّر مثل هذه الأساطير.

Exit mobile version