لن أنسى أبدًا شهر أكتوبر عام 1972 ، عندما دخلت معلمة الفيزياء الجديدة فصلنا، وكانت شابة رشيقة مفعمة بالحيوية والنشاط ، وسكت كل الطالبات عند دخولها الفصل. وكانت كل العيون تنظر إليها وكل الآذان تصغى لحديثها الصادق العذب، فماذا كانت تقول في اليوم الأول من العام الدراسي وماذا كانت حالتها المزاجية؟ كلنا كنا نتوقع أن تحدثنا عن دروس الفيزياء وطريقة الامتحان وأسلوب التدريس، ولكن جاء الأمر على عكس ما كنا نتوقع جميعًا ، والتفتت بوجهها الصادقة الرحيمة إلى الطالبات وقالت: ”لا اقلقن من دروس الفيزياء ، فعلي كل حال سوف ننهي المنهج قبل نهاية العام الدراسي ، وسوف تحصلن جميعًا على درجات عالية. ومن الأفضل الآن أن نتحدث في موضوعات أخرى. وبعد فترة صغيرة من تقديم نفسها دون أن تضيع الوقت قالت: هل تعلمون ما معني الروية للعالم؟ وهل تعلمين أن لكل منكن روية للعالم؟ هل تعلمين أن لكل منكم أيديولوجيته الخاصة؟ وبعد طرح سلسلة من هذه الأسئلة ، قالت: “هل توافقن أن أعلمكن هذه الأشياء قبل كل درس فيزياء؟
في الواقع ، أصبحنا جميعًا مندهشين وفضوليين ، وكنا ننظر إلى هذا المعلمة الشابة وفتنا بها من أول لقاء وقلنا لها نعم موافقين ، ويبدوأنها جاءت إلى مدرستنا لهذا الهدف، وبأسلوب بسيط وكلمات ساحرة مثل الروية للعالم والإييدولوجية، وغيرها من الكلمات، شرحت لنا الكلمات وبينت المقصود. وعندما سمعنا هذه الكلمات لأول مرة كانت ثقيلة وغير مألوفة، ولكن نظرًا لجديتها والمجهود الذي بذلتها لتفهمنا معني الكلمات أدركنا أن القضية في غاية الأهمية . ولذلك ، كنا نستمع إلى حديثها بعناية وفضول.
في الأيام التالية، شرحت لنا جميع الكلمات وكانت تتحدث عن موضوعات هامة وعناوين الدروس ، وكنا نكتب ما تقول في كراسة خاصة أعددناها لهذا الغرض. ومن المثير للاهتمام ، أن هذه المفاهيم الصعبة جعل طريقة تدريسها بالنسبة لنا مفهومة وممتعة للغاية . ولهذا السبب ، كنا نتوق شوقًا إلى دروسها على مدار الأسبوع.
ورحبنا بتحويل حصة الفيزياء إلى حصة تعلم الأيديولوجية، ودخلنا العالم الجديد تدريجيًا ، وفي نفس العمر وفي مستوانا التعليمي، أصبحنا على دراية بالموضوعات التي جرتنا إلى عالم الكبار. وأدركت جيدًا كيف أن الطلاب تركوا عالم المراهقة والتطلعات الصبيانية تدريجيًا وأقحموا أنفسهم في موضوعات ومناقشات جادة. وحتى الأمس لم يكن عدد الفتيات اللائي يبحثن عن أحدث صيحات الموضة قليلًا ، والآن يتحدثن مع بعضهن البعض سرًا وبشغف خاص عن المدارس الفلسفية والسياسية. وهو الشيء الذي لم يخطر على بال أحد حتى قبل شهر مضى.
وحدثتنا في أحد الأيام عن فقر وحرمان سكان جنوب المدينة، واحتفالات نظام الشاة المعروف بـ 2500 سنة، وثورة الشاه البيضاء، وعندما كانت تتحدث عن الفقر والبؤس، كانت الدموع تتدفق من عيون الطالبات. أتذكر أن حديثها أثر كثيرًا في الطالبات لدرجة أن جميع الطالبات في نهاية الحصة الدراسية قدموا للمعلمة بسعادة غامرة كل ما لديهن من مدخراتهن الشخصية لمساعدة الأطفال والفقراء الذين كانت تتحدث عنهم بحب ومودة. لقد فتنا بها جميعًا ، وعلى الرغم من أن المدارس الأخرى قد قطعت شوطًا كبيرًا في تدريس منهج الفيزياء وكانوا يستعدون لامتحانات نصف العام ، إلا أننا كنا ما زلنا متعطشين لتعلم المزيد من معلمتنا المحبوبة.
لقد انتهزت معلمتنا المحبوبة كل فرصة لإثارة مشاعرنا الإنسانية نحو الآلام التي كانت تحيط بنا . ولن أنسى أنها كانت تجلس يومًا معنا في فناء المدرسة في حصة الألعاب، وعلى عكس جميع المعلمين، شاركتنا اللعب والمرح . وعندما كنا منهمكين في لعب كرة الطائرة ، لاحظت أن إحدى الطالبات لا ترتدي ساعة مثل باقي الطالبات، وعلى الفور خلعت ساعتها من معصمها وأعطتها هدية للطالبة. ولم يصدق أي طالبة في البداية ما يحدث ولم تأخذ الموضوع على محمل الجد. وكان جو النكت والضحك هو السائد بيننا. لكنها كانت جادة في إهداء ساعتها للطالبة. وشعر زميلنا بالخجل من أن تأخذ ساعة المعلمة ، ولكنها لم تكف عن الفكرة وأصرت عليها ولبّست الساعة بنفسها للطالبة ، هذا التصرف أثر على مشاعر الجميع في ذلك اليوم. وانتشر الخبر في كل مكان حتى في المدارس المجاورة، لأنه لم تكن هنا أي علاقة بين المعلم والطالب في أي مكان قبل ذلك اليوم .
وعلى هذا المنوال، مر حوالي شهرين من العام الدراسي الجديد، وخلال هذه الفترة لم نتعلم أي دروس في الفيزياء باستثناء دروس المتجهات . وخلاصة القول أن هذه المعلمة أخذت معها قلوبنا وروحنا جميعًا . وفي نهاية المطاف أدرك مديرة المدرسة الثانوية المنتمية لسافاك الشاه الوضع في فصلنا، وقرر طرد المعلمة. وفي آخر يوم دخلت فيه فصلنا ، انخرطنا جميعًا في البكاء. وفي ذلك اليوم أدركنا سبب عدم ضياعها لأي دقيقة في تعليمنا.
وعلى الرغم من مرور سنوات عديدة على ذلك اليوم، لم أنس مشهد توديع تلك المعلمة . وفي آخر يوم للقائنا كانت حريصة على أن تعلمنا كل ما تستطيع في هذه الفرصة القصيرة. وحدثتنا عن الآثار الشريرة لثورة الشاه البيضاء وأسباب فقر وحرمان وبؤس الشعب. وفي النهاية ، عندما كانت عيونها تزرف الدموع رفعت يدها مشيرة بعلامة النصر ، ونظرت لكل الطالبات ، وقالت: استودعكن الله أيتها الطالبات العزيرات. آمل أن تقفين إلى جانب الشعب. وفي هذه الحالة سوف أراكن فردًا فردًا في زنازين سجن إوين. وخرجت من الفصل والدموع تنهمر من عيون الطالبات.
نعم ، هذه المعلمة الصادقة والمخلصة والرحيمة ، لم تكن أي شخص آخر سوى الشهيدة ”أشرف رجوي“ التي كانت إحدى السجينات السياسيات الأكثر صمودًا ومقاومةً في عصر الشاه ، وتعرضت لأبشع أنواع التعذيب.
وفي تلك الأيام ، في ذلك الفصل الضيق المظلم هي التي فتحت عيوننا على التاريخ والثورة وغيرت مسار حياتنا . وبعد ذلك عندما التحقت بجيش التحريرالوطني الإيراني ورأيت عددًا من نفس الطالبات يرتدن زي مناضلي جيش التحرير، استمروا في طريق تلك المعلمة . إن مشاهد الحصص الدراسية التي كانت تلقنها لنا تلك المعلمة من المستحيل أن تنسى من ذاكرتي.
نعم ، لم أنس أبدًا طلعة أشرف البهية، حيث كانت ترتدي زيها الأخضر البسيط في تلك السنوات ، وكانت رشيقة وخفيفة الحركة وتمشي خطوات قليلة داخل الفصل وتلقي بمفتاح سيارتها على الطاولة، ثم تبدأ في السلام على الطلبة والإطمئنان على أحوالهن . في الواقع ”أشرف“ لم تضيع لحظة واحدة ، إذ كانت في مشيتها وكأنها تركض. كما لو كانت تعلم أن عمرها قصير ورسالتها كبيرة. لقد قامت بالتدريس في مدرستنا في وسط طهران لمدة شهرين فقط. إن أشرف كان معلمة جيلنا، وعلمتنا خلال هذين الشهرين دروس في الإنسانية والوفاء للشعب قدر ما نتعلمه في سنوات عديدة ، وغيرت مدرستنا ورحلت. ولم نكن نعلم في ذلك اليوم أنها ستكون في طليعة ثورة شعبنا.