في ابتسامتها الجميلة، ونظرتها النافذة وكلامها المؤثر، تكمن صلابة الحرب وشجاعة مدهشة.
هنكامه حاج حسن من السجناء السياسيين ومن شهود سراديب خميني المرعبة وعنابر النساء في عقد الثمانينات، انها ألفت بقلمها المبدع، ذكريات أيام السجن في كتاب يحمل عنوان «وجه لوجه أمام الوحش» وهي تعبير عن بطولة النساء المجاهدات ووحشية السجانين ومحترفي التعذيب التي لا حد لها.
انها تعرف نفسها في العبارات التالية:
اني من مواليد 1956 في طهران. أنهيت دراستي في طهران وبعد التخرج من مرحلة الثانوية في العام 1975، دخلت كلية التمريض في جامعة طهران. وتخرجت في العام 1979 ثم عملت في مستشفى سينا بالعاصمة طهران ممرضة هناك.
كان والدي يزاول مهنة إعداد الفلم والسينما؛ ولكن بعد مجيء الملالي إلى الحكم، اشترطوا عليه التعاون مع النظام الحاكم لاستمرار عمله، ولكن بما أنه رفض أن يخضع لهكذا مذلة، أصبح عاطلًا عن العمل فلزم البيت. وأخيرًا وبينما لم يبلغ عمره 60 عامًا، توفي في 25 نوفمبر 1987نتيجة الحزن وبسبب الضغوط الواردة عليه من قبل النظام وحرمانه من مهنته. وكانت أيام بعد الثورة وعقد الثمانينات، أيامًا هائجة بالفتن.
أتذكر أن أحد أشقائي اختفى في العام 1981 خلال الاضطرابات في الشوارع. كان عمره 24 عامًا وغير سياسي لا ينتمي إلى أي مجموعة أو منظمة ولكنه فجأة اختفى ولم يعد إلى البيت إطلاقا.
وكتبت هنكامه في كتابها في وصف الظروف السائدة آنذاك:
«في الوقت الذي أعلن فيه الحجاب إجباريًا، وخاصة في مكان عملي بالمستشفى، يومها أثير ضجيج حول زي الممرضة بتلك البقعة البيضاء الجميلة والثياب الخاصة التي تعطي لها هوية المرأة وجرت مطالبة بتغييره. أعترف بأنني كنت مولعة بمهنة التمريض منذ الطفولة وكان هذا الزي منذ الطفولة العامل الأساسي الذي جعلني أحبه، أما الآن فقد كنت أرى يد التطاول عليه وتغيرت هذه الأحلام الجديرة بالمحبة إلى كابوس. ووصلنا إلى مرحلة واجهنا فيها مجموعات بلطجية ترش الأسيد على وجوه النساء وتضايقنا نحن النساء بتهم مخلة بالشرف كي تطردنا من ساحة المجتمع».
إنها تقول:
لم يكن لدي أي نشاط سياسي قبل الثورة. كنت طالبة جامعة وأنشط في مجال مهنتي. ولكن بعد الثورة، انخرطت في صفوف أنصار منظمة مجاهدي خلق، كنا مجموعة من الممّرضات نمارس نشاطاتنا دعمًا لمجاهدي خلق في المستشفى وخارجه. آنذاك، كنت أعمل في مستشفيات مختلفة في العاصمة طهران – في مستشفيات أهلية – في عدة نقاط. وأتذكر في تلك الأيام كان أزلام النظام يهاجمون تجمعات مجاهدي خلق عدة مرات ويصيبون أنصار المنظمة بجروح. وفي هكذا حالة، كانت العناية للجرحى على عاتقنا.
إضافة إلى تقديم العناية الطبية الضرورية، كان علينا أن نهرّب الجرحى في أول فرصة من المستشفى؛ لأن أزلام النظام وعناصر الكوميته كانوا يقتحمون المستشفى بعد كل هجوم وكانوا يخطفون المرضى المصابين ويقتادونهم إلى السجن وإلى غرف التعذيب وكان هؤلاء في معظم الأوقات يُعدَمون لاحقًا.
وعدد من زملياتي الدراسية وزميلات عملي في تلك السنوات، تم اعتقالهن بمجرد تهمة مساعدة الجرحى وتهريبهم، ثم تم إعدامهن.
شكر محمد زاده، وطوبى رجبي ثاني، وتهمينه رستكار مقدم، وكبرى علي زاده، وأكرم بهادر.
طوبى وتهمينة وكبرى تم إعدامهن في العام 1981 ولكن شكر وأكرم تم إعدامهما في عام 1988.
شكر، صديقتي العزيزة ورغم أنه كان قد صدر حكم عليها ولكنها اقتيدت إلى مشانق الإعدام خلال مجزرة 30 ألف سجين سياسي.
كما وبجانبنا كان أطباء، اُعدَموا في العام 1981 بتهمة مساعدة ومعالجة أنصار مجاهدي خلق. صادق ارمشيه، وعلي درودي، والطبيبة فهيمة مير أحمدي.
وبعد 20 حزيران 1981 حيث كانت حملات الاعتقال تطال مجاهدي خلق بشكل واسع، لم يعد يمكن العمل في المستشفى بالنسبة لي ونحن، كوننا معروفين بمناصرة مجاهدي خلق. لأنه مجرد اتهام التعاون وإغاثة مجاهدي خلق، كان يكفي للاعتقال وفي النهاية الإعدام.
لذلك اضطررت الهروب من موقع العمل، ولم يكن بمقدوري الاستمرار بعمل التمريض رغم كل حبي لهذه المهنة.
ولم يكن بإمكاني الذهاب إلى البيت لمدة 5 أشهر – بسبب خطر الاعتقال والسجن-. وبعد 5 أشهر وأخيرًا وفي يوم من أيام شهر نوفمبر 1981 تم القبض عليّ في الشارع. في ذلك اليوم كان عناصر النظام يعتقلون الشباب واعتقلوني أيضا بجريرة كوني شابة.
وتوضح هنكامه في كتاب «وجها لوجه مع الوحش» اللحظات التي مرت بها بعد الاعتقال كالآتي:
«عندما كانت سيارة قوات الحرس تمر بمنطقة ”بارك وي“ شاهدت زقاقنا من بعيد، تخيلت والدتي، بماذا كانت تفكر وماذا تفعل؟ على أية حال ربما لا تتصور الوضع الذي أنا به، لكنها سوف تفهم بسرعة، أنني لم أعد وستصبح مثل الآخرين هائمة على وجهها بين السجون والمقابر. كنت أتمنى لو أستطيع أن أخبرها إلى أين أنا ذاهبة… أحكموا وثاق عيني وألقوني داخل السيارة مع كم من اللكمات والركلات والشتائم ثما ساروا باتجاه أدركت فيما بعد أنه نحو سجن ايفين…».
وهي تشرح أول تجربة من خضوعها للتعذيب في السجن تقول:
«قيدني الرجل المعذّب على سرير التعذيب مقلوبة على وجهي ويداي مقيدة بالسلاسل في أعلى السرير وأقدامي في الحافة السفلى للسرير وأحكم وثاقي إلى درجة أني لم أعد أستطيع التقلب ولا تحريك قدمي. ثم جلس حارس آخر على ظهري وألقوا بطانية على رأسي… وفجأة تلقيت ضربة في راحة أقدامي. وخلال لحظة شعرت أن تيارا قويا من الألم مثل الكهرباء فهزّ كل جسدي وكل أعصابي.. وكرّروا الضرب بصعقات ضربات أخرى. لم أعلم كم عددها وكنت أصرخ من الألم…».
هنكامه، هي من النساء البطلات اللاتي تعرضن لأعمال التعذيب الوحشية وعلى مدى طويل في سراديب التعذيب في سجون خميني المعروفة بـ «القفص» خلال عدة أشهر. انها تشد انتباه القارئ في كتابها وتقول:
«كنت أرتدي جاكيت سميك حاكته خالتي وأرسلته لي، وحينما وصل إلى جانبي «الحاجي» رئيس السجن، فضربني بقوة على رأسي بالكيبل،… كنت أفكر ما هذا الذي أصابني بعد ذلك الضرب الذي تعرضت له ولكني كنت أنحني بسبب الضربات القوية المتتالية فكنت لا أستطيع الثبات، أصبت بالدوار وقد أخذ رأسي يؤلمني بشدة .. وحينما بدأ أنيني تركني الجلاد الحاج داود وقال خذوها…
نقلوني إلى داخل الممر حيث العنابر وتركوني في بداية الممر على اليسار داخل قاعة أو غرفة وسلّموني إلى المرأة المتواجدة المشرفة على الأقفاص. أخذتني تلك المرأة إلى مكان بين خشبتين بمسافة نصف متر يبعد بعضهما عن البعض وأنا في وضع قائم. ولاتزال عيناي معصوبتين…
وبقيت هناك لمدة أسبوع تقريبًا ولا يسمح لي حتى بفتح التشادور وغطاء الرأس وعصب العين.. وحتى السعال وحتى بالكلام. واذا كانت لدي حاجة طارئة كان عليّ أرفع يدي. كنت طوال تلك الفترة بين الخشبتين في وضع الجلوس مثل التابوت… أحيانًا كنت آشعر من شدة الجو الخانق أني سأموت.
كان البرنامج كالآتي: الاستيقاظ فجرًا بين الساعة الخامسة والسادسة وقت آذان الفجر، حيث نعطى ثلاث دقائق للوضوء وخمس دقائق للصلاة ثم كنا ندخل القفص ونجلس ونتناول الفطور في المكان نفسه، وفي وقت الظهر نعطى مرة ثانية ثلاث دقائق للوضوء ثم الصلاة وثانية ندخل إلى القفص ونتناول الغداء ولا أعلم أي ساعة نعطى مجددًا ثلاث دقائق للوضاء ثم الصلاة والعشاء وكنا نجلس حتى الساعة الثانية عشرة، بعد ذلك كنا نتمكن من الاستلقاء والنوم. والمعتاد كنا ننام بين 4-5 ساعات ثم يتكرر اليوم التالي مجددًا وبهذه الصورة مرّت الأيام والأسابيع والشهور …
لم يؤذني أي شيء في السجن أكثر من العصبة التي تغطي عيني، بكل ما لها من تأثير كبير في عزل الإنسان عن العالم الخارجي، ودفعه بصورة أكثر إلى التقوقع والانكفاء على ذاته، النوم وحتى مجرد الإغفاء للحظات كان ممنوعًا فيه طوال النهار وقبل الساعة 12 واذا قمت بهذه «الجريمة» كنت تتعرض للضرب تمامًا في غفلة وهذه كانت أسوأ حالة تتعرض لها فتؤثر في قواك. كما كان عليك أن تجلس بصورة لا يخرج فيها رأسك عن ارتفاع جدران القفص التي يبلغ ارتفاعها نصف متر وإلا فإن ضربات الكيبل ولكمات الحراس تضطرك إلى إحناء رأسك. وأمام هذه الحالة كان على الأشخاص طويل القامة مثلي الجلوس والانحناء أيضا يضاعف هذا الضغط الجسدي. حتى أثناء تناول الطعام يجب ألا يُسمع صوت اصطدام الملعقة بالإناء على سبيل المثال، وإلا فإن الفاعل سيُتهم بإرسال إشارات إلى القفص المجاور فينال نصيبه من الضرب والتعذيب.
كما تشرح هنكامه خلال سردها قصتها، استمرت هذه الفترة الصعبة والمدهشة سبعة أشهر وأخيرًا، إنها وسائر الأبطال والبطلات الذين تمكنوا بمقاومتهم الشرسة وصمودهم وشجاعتهم من هزيمة العدو، خرجوا شامخين من هذه التجربة المريرة.
ولكن مع الأسف كان هناك العديد ممن فقدوا توازنهم النفسي خلال هذه الفترة من أعمال التعذيب. وكان هناك العديد ممن لم يتمكنوا من العودة إلى حالتهم الطبيعية كإنسان طبيعي مع عواطف وانفعالات وعادات مألوفة، كما كان العديد وبعد اجتياز هذه الفترات العصيبة والمضنية، تم إعدامهم في مجزرة عام 1988 وضحّوا بأرواحهم فداء لتحرير الوطن.
ربما هؤلاء، كان لهم في ضمائرهم وأفكارهم، يتحدثون بنظراتهم وهمساتهم إلى نساء شجاعات وصامدات من أمثال هنكامه إلى يوم يكتبون بأقلامهم ما جرى عليهم ويسطرونه في صفحات تاريخ مقاومة شعب لتبقى ذكريات خالدة.
وعن سبب إطلاق سراحها تقول هنكامه:
«خلال السنوات التي أمضيتها في السجن، كان أحد الصراعات في الملف السياسي، صراعًا بين منتظري مع رموز النظام. وبلغ هذا الصراع حدته، حتى اضطر عناصر النظام إلى اطلاق سراح عدد من السجناء وأنا كنت واحدة منهم.
وبعد عامين من إطلاق سراحي، من حسن الحظ تمكنت من الارتباط بقنوات المنظمة، وبعد التوكيد من الارتباط، غادرت الوطن في عام 1986 قاصدة قواعد المقاومة ماوراء الحدود.
ومنذ ذلك العام وإلى يومنا هذا، مضت 32 عامًا.
32 عامًا وأنا أتذكر كل لحظاتها مع ذكريات صديقاتي وأحبائي اللاتي عشت معهن. اولئك اللاتي كن بالتأكيد جوهر الحياة واليقين بالنصر واولئك اللاتي لمستهنّ بجانبي في كل لحظات حياتي النضالية وهنّ كنّ نشيد أيام المعركة والنضال في قطع الطريق إلى الأمام نحو قمة النصر. خاصة واليوم أرى كل هؤلاء البطلات تكاثرن في شوارع طهران في نساء مجاهدات في معاقل الانتفاضة».